من ماذا تتألف المادة؟
الى اي حجم يمكن الاستمرار بتقسم المادة؟ للجواب على هذا السؤال يجب ان نعلم من ماذا تتألف المادة. في السابق كان الاعتقاد ان الذرة هي اصغر قطعة في المادة، حيث لايمكن تقسمها الى اصغر، الان يتقاسم مفهوم " الاصغر" عدة اجزاء في وقت واحد. الموديل الذي يصف جوهر المادة يسمى الموديل الاساسي، وهو يقوم على اساس نظرية " حقل الكفانت" (حقل الكم). الفيزياء الحديث يتكون من مجموعة من النظريات الاساسية، ولكننا هنا لن نحتاج الى معرفة الرياضيات التي تتشكل منها هذه النظريات حتى نفهم الخطوط الاساسية لبنية المادة.
المواد الاساسية التي تتشكل منها حجارة المادة، كما نعرفها اليوم، تسمى فيرميون وتنقسم الى مجموعتين: الكفاركات والليبتونات. (kvark, lepton). الكفاركات هي التي تقوم ببناء البروتونات والنيترونات والذي تتكون منهم نواة الذرة. في حين كنموذج عن الليبتونات يمكن ان نأخذ الاليكترون، الذي يقوم بنقل الكهرباء في النواقل، والذي ايضا يكون سبب ترابط الجسم البشري وبقية الاجسام ببعضها.
ولكن المادة لاتتألف فقط من " الاجزاء المادية"، الكفاركات والليبتونات، بل ايضا القوى في حالتها الاساسية تعتبر " اجزاء". هذه الاجزاء ببساطة " كفانتية"، بمعنى اخر باكيت من الطاقة بقوة محددة، ويطلق عليها كمجموعة تعبير: البوزون.
اليوم نعلم بوجود اربعة انواع من الطاقات الطبيعية المعروفة: الجاذبية، الكهرومغناطيسية، القوة النووية القوية والقوة النووية الضعيفة. القوى الثلاث الاخيرة هي التي تصف " جزيئات الطاقة" من مجموعة البوزونات، حركة تبادلها: الطاقة الكهرومغناطيسية تنقلها الفوتونات (الجزيئات الضوئية) ، والتي يوجد منها نوع واحد. القوة النووية الضعيفة، والتي تسبب التحطم الاشعاعي للمواد المشعة (المستخدم في قياس العمر الاشعاعي)، يمثلها جزيئين من جزيئات نوع W, وجزيئ من نوع Z. القوة النووية القوية، والتي تربط الكفاركات الى البروتونات والنيترونات مثلا، يمثلها ثمانية انواع من الغلونات (gluon), (جزيئات لاصقة). احد اشكال ظهور هذه الطاقة هو التصاق البروتونات والنيترونات مع ذرات اخرى.
كلا الطاقتين النوويتين ( الضعيفة والقوية) تملكان مدى قصير للغاية، تقريبا واحد من الف مليار ميلليمتر. لهذا السبب لانلاحظهم في حياتنا اليومية ولهذا السبب ايضا لم نكن نفهم شئ عنهم الى السبعينات من القرن الماضي.
احدى اهم خواص هذه الجزيئات هو التأثير التبادلي، اي كيفية تاثر جزيئات المادة بجزيئات الطاقة. التأثير التبادلي للكفاركات يجري بمساعدة كل الانواع الثلاثة لجزيئات الطاقة اعلاه (foton, W, Z). الاليكترونات وبقية الجزئيات المشحونة كهربائيا من مجموعة الليبتونات ، تتأثر تبادليا مع نفس الانواع الثلاثة (foton, W, Z)، في حين النيوترينات، وهي جزيئات من مجموعة الليبتونات ولكنها محايدة كهربائيا، لاتتأثر إلا من قبل جزيئات W, Z- اي القوة النووية الضعيفة التي مدى قوتها جزء من الف مليارد ميلليمتر. لهذا السبب نجد ان النيترونات لايشاركون في اي تفاعل على الاطلاق. الارض وجميع الاجسام تخترقها على الدوام كمية هائلة من جزيئات النيوترين، والتي تطلقها حتى التفاعلات الشمسية. هذه الجزيئات تخترق كل شئ.
مابين ستينات وسعينات القرن الماضي جرى اكتشاف غريب وغير منتظر. لقد ظهر ان الكفاركات والليبتونات منتظمة في " عوائل". حتى الان تم اكتشاف ثلاث " عوائل"، حيث الكفاركات والليبتونات تنتظم في ازواج على اساس التغير في الكثافة. الى العائلة الاولى تنتمي الكفاركات: الكفارك الاعلى والكفارك الادنى، ومن الليبتونات: الاليكترون واللاليكترونيوترينو. في العائلة الثانية يوجد: الكفارك الخاص والكفارك المثير. ومن الليبتونات: myon, myon-neutrino. في العائلة الثالثة: كفارك القعر وكفارك القمة، ومن الليبتونات: Tauon, Tau-neutrino.
لااحد يعلم فيما إذا كان هذا الترابط التسلسلي يقف عند هذا الحد. من خلال قياس التحطم الاشعاعي للجزيئ Z مثلا نعلم ان عوائل محتملة جديدة لن يكون لها كثافة خفيفة او بدون كثافة كما هو الامر مع هذه العوائل الثلاث. في نفس الوقت لااحد يعلم وظيفة او سبب هذه الزوجية التسلسلية في الطبيعة. عوائل الجزيئات تظهر وكأنها متشابهة في كل الدقائق عدا الكثافة التي تتزايد من عائلة الى التالية.
منذ اربعينات القرن الماضي عندما تم اكتشاف Myon, لاحظ العلماء هذه المعضلة. لماذا يملك الالكترون "ابن عم" متشابه لولا انه اثقل في 200 مرة؟ في سبعينات القرن الماضي أُكتشف " ابن عم آخر"، ايضا متشابه مع الالكترون ولكن 3500 مرة اثقل منه، وهذا الاكتشاف لم يجعل الامر اكثر وضوحا.
القليل من الجزيئات توضح الكثير من الظواهر إذا حسبنا الجزيئات التي تشكل "المادة المعروفة" لظهر لدينا ستة كفاركات وستة ليبتونات، وفي جهة الطاقة (البوزونات) نجد فوتون واحد وثلاثة من مجموعة W وثلاثة جزيئات من مجموعة Z وثمانية gloun.
هذا الامر قد يظهر معقد ولكن علينا ان نعلم ان الموديل الاساسي في فيزياء الجزيئات يتمكن من وصف جميع ظواهر الكون المعروفة لنا عدا واحدة. حتى الان لازال لايوجد توضيح مناسب لقوة الجاذبية انطلاقا من الجزيئات. لازال ليس لدينا قدرة على توضيح كيفية حدوث الجاذبية على المستوى الميكروسكوبي، ولازالت افضل نظرية لدينا عن الجاذبية هي نظرية النسبية لاينشتاين من عام 1915. هذه النظرية جرى تكوينها بدون اخذ فيزياء الكفانت بعين الاعتبار.
مشكلة القدرة على دمج النسبية العامة مع فيزياء الكفانت وبالتالي التمكن من الحصول على نظرية الجاذبية الكفانتية، هي اكبر تحدي تواجه الفيزياء النظري اليوم. من الممكن تماما ان الكفاركات والليبتونات والبوزنات يتكونون بدورهم من اجزاء اصغر واكثر اساسية. عدم رؤيتهم حتى الان لربما يكون بسبب اننا لم نتمكن ان ننظر اعمق بما يكفي.
كافة الظواهر التي واجهتنا حتى اليوم يمكن تفسيرها من خلال القوى الطبيعية الاربعة. اثنتان من هذه القوى (الجاذبية والكهرومغناطيسية) لدينا خبرة مباشرة عنهم ونحتك بهم، في حين القوتان الاخيرتان (النووية الضعيفة والنووية القوية) توجد في باطن الذرة فقط في حين خارج نطاق الذرة تصبح قيمتهم صفر على الفور، ولذلك لانشعر بهم.
اليوم يسود الاعتقاد ان الكون نشأ من "العدم" قبل حوالي 14 مليارد سنة، من حالة المادة ماقبل الانفجار مضغوطة الى اللانهاية (احتمال). من اجل تفسير النشوء يجب التعرف على جزيئات المادة وفيزياء الكفانت بصورة افضل. في الكون اليافع كان المقياس القياسي الطبيعي في مستوى مقارنة مقارب للجزيئات الاساسية. لهذا السبب ستلعب قوانين فيزياء الكفانت دورا هاما في تفسير كيفية نشوء وتطور الكون الفتي.
بمعنى اخر يوجد ارتباط وثيق بين الاكثر صغرا ( بالمطلق) والاكثر كبرا (بالمطلق في إطار كوننا) ، اي بين الاحجار الاساسية للمادة وبين الكون ككل. إذا كانت القوانين الطبيعية في الكون الفتي قد انحرفت قليلا عما نعرفه عنها الان لصار للكون شكل مختلف عما هو عليه الان. هذا الامر اوصل البعض الى الاعتقاد ان الكون جرى " خلقه من قبل قوى ذكية" خصيصا من اجل الانسان. هذه الفرضية تسمى "antropiska principen", ولكن اغلب العلماء لايعيرونها اهتماما.
من الغريب انه من الاسهل لنا وصف الكون الفتي اكثر بكثير من الكون الحالي. ذلك بسبب ان الكون الاول كان عبارة عن كتلة واحدة من الحرارة الشديدة. لدى العلماء اليوم اعتقاد قوي، انهم، وبمساعدة المعطيات الفيزيائية المجربة مختبريا، سيكون بإستطاعتهم وصف الكون الاول حتى لحظة عمره بمقدار يصل الى واحد من مليار من الثانية بعد الانفجار العظيم.
من اجل فهم لماذ ذلك ممكنا يمكن استخدام الماء نموذجا. إذا قمنا برفع درجة حرارة الماء الى عدة آلاف الدرجات نحصل على البلازما، اي بخار ماء مؤين. وعندما يكون لدينا وسط متشابه في كل انحائه يمكن عند ذلك التعبير عنه رياضيا.
عندما تبدأ بلازما الماء فيالتبرد تتحول اولا الى الشكل الغازي، هذا يعني ان ذراته تترابط بعد ان اصبحت الحرارة باردة بمايكفي لنشوء ذرة الماء، وبعد ذلك يتحول الى الحالة السائلة مع ان الاحجار الاساسية التي تكون الماء هي ذاتها في كل المراحل، ليتحول اخيرا الى الشكل الصلب.
كلما انخفضت درجة الحرارة كلما اصبح من الاصعب وصف الماء، لتزايد عدد الظواهر والبنى الداخلية فيه تعقيدا. الجليد يملك مثلا 18 بنية كريستالية مختلفة وروابط معقدة بين الكترونات ذرات الماء.
الكون يقدم لنا نفسه بالطريقة ذاتها من حيث الجوهر. عندما تبرد الكون الفتي (حالة البلازما) بدأت المزيد والمزيد من البنيات المعقدة تتشكل. في البداية كانت كل ارجاء الكون متشابهة مع بعضها عدا نقاط صغيرة التي شكلت بذور البنيات الجديدة.
في الكون الحالي اصبح وجود العديد من القوى، وعلى الاخص الجاذبية، مبعثاً لنشوء تنوع لانهائي من الاشكال البنيوية الممتلئة بالتفاصيل بالمقارنة مع مختلف المقاييس الممكنة. وإذا صدق ان القسم الاكبر من مادة الكون تتألف من مادة وطاقة مظلمة ، حسب ماتشير كافة الملاحظات، فإن الاحتمال كبير ان هذه " المادة" ايضا لها مشاركاتها البنيوية بطريقة إرتباط ميكروسكوبية لازالت مجهولة. وبالتالي من جديد علاقة بين الاكبر المطلق والاصغر المطلق.
الاسئلة المتبقية وبالرغم من ان الموديل الاساسي يحظى بنجاحات كبيرة، فأنه لازال هناك الكثير من الاسئلة لم تلقى الجواب. من هذه الاسئلة " التقسيم داخل العائلة": لماذا يملك الالكترون والكفاركيين الاصغر ابناء عموم؟ حسب مانعلمه لايحتاج المرء لهم لبناء مايقومون ببناءه ومن ثم تحطمه الاشعاعي بالطريقة التي يجري بها.
السؤال الاخر هو الفرضية حول جزيئة هيغغز. في المدويل الاساسي تقف امامنا معضلة اعطاء هذه الجزيئة كثافة لجسمها. عام 1963 اقترح الفيزيائي Peter Higgs إمكانية وجود مجال كفانتي خاص، ولذلك حصل على اسم هذا الفيزيائي. ولكن هذا الامر لازال في طور الفرضية ولم يتمكن احد حتى الان من البرهنة على وجوده فعلا. بعض العلماء واثقين من وجوده في حين ان البعض الاخر يعتبر ان الوجود شئ وتفسير كثافته الوجودية شئ اخر.
المعطيات التي تقدمها التجارب الاساسية تتزايد بإستمرار. في نفس الوقت تتوالد العديد من الاسئلة عن كل سؤال يتم الاجابة عليه. لدى العلماء اليوم آمال كبيرة على المحطة الفيزيائية LHC التي بدأ العمل فيها عام 2008، وهي محطة ستتمكن من النظر اعمق في قلب المادة. للمزيد عن هذا الموضوع اضغط هنا على الاغلب ستتمكن هذه المحطة من الاجابة على سؤال فيما اذا كان جزيئ هيغغز حقيقة ام خيال. الاكثر إثارة ان تتمكن المحطة من إكتشاف جزيئات لم تكن بالحسبان على الاطلاق.